حتى لا نظلم أمريكا

 

غرقت أمريكا في أوحال العراق بين دجلة والفرات. وتحولت المغامرة إلى كارثة سياسية وإنسانية لا مثيل لها،مما دفع الأمين العام الأممي كوفي عنان إلا القول أن الوضع في العراق أبشع من الحرب الأهلية. واكتشف الأمريكيون أن أهل العراق لم يستقبلوهم بالورود والزغاريد كما أقنعتهم دعايتهم بذلك.

واستطاعت سياسة جورج بوش أن تخلق شبه إجماع وطني جديد في العراق ضد الوجود الأمريكي. ولم يبق من يساند الوجود الأمريكي إلا تلك الطائفة التي جاءت رفقة الدبابات الأمريكية، والتي تأكدت أن وجودها مربوط ببقاء الجيوش الغربية. وبالمقابل، فإن نفس المغامرة أدت إلى ظهور إجماع أمريكي ضد جورج بوش، حيث كان لها أثر مباشر في انهزام حزب الرئيس الأمريكي جورج بوش في نوفمبر الماضي. ومن المنتظر أن يكون للحرب المفروضة على العراق دور أساسي في الرئاسيات القادمة في أمريكا بعد سنتين.

وفي أفغانستان ، تواجه الولايات المتحدة مشاكل لا تقل خطرا. فرغم أن غزو أفغانستان حصل في الأيام الأولى على إجماع دولي لا مثيل له في التاريخ المعاصر مباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر، إلا أن جزء من الرأي العام الأمريكي والغربي بدأ يساءل عن مغزى الحرب الدائرة هناك، خاصة أنها لم تتوج بالقضاء على أسامة بن لادن ولا على اختفاء تنظيم الطالبان. وما يحدث معاكس تماما لذلك، حيث أن تنظيم طالبان استطاع أن يعيد بناء مجموعات مسلحة منضبطة وقوية فرضت نفسها في ميدان الحرب.

إلى جانب هذه المشاكل، فإن أمريكا فشلت بصفة كاملة في مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي كان من المفروض أن يفتح أبواب الجنة الديمقراطية لفضاء يشمل البلدان الموجودة بين الهند والمحيط الأطلسي. ومازالت الاجتماعات متواصلة لهذا الغرض مثلما حدث هذا الأسبوع لما التقت كاتبة الدولة كوندوليزا رايس مع مسئولي بلدان الشرق الأوسط لتبادل الآراء حول الديمقراطي. واجتمعت "كوندي" مع ملوك ورؤساء جمهوريات ملكية وزعماء أنظمة "تيوقراطية" حسب العبارة التي كان يفضلها المرحوم هاشمي الشريف. وتبادل القوم المجاملات والعبارات التي تمجد الحرية ليعودوا إلى بلدانهم مسلحين بعصي ودبابات لمواجهة شعوبهم.

ويوحي هذا الكلام أن أمريكا فشلت، وأنها لم تستطع فرض رأيها على العرب والمسلمين، ولم تحقق أهدافها، خاصة في العراق الذي برهن على كبريائه وشجاعته. لكن هذا الرأي مبني على فكرة خاطئة، وهي أن أمريكا جاءت للعراق وللمنطقة بصفة عامة للقضاء على الأنظمة المتعسفة، وفي مقدمتها نظام صدام حسين وطالبان، في محاولة كبرى لنشر الديمقراطية والحريات في بلدان ترفض الديمقراطية.

هذا الهدف المعلن من طرف واشنطن، لكنه ليس الهدف الحقيقي للسياسة الأمريكية في المنطقة، التي تبنى على فكرتين أساسيتين: أمن إسرائيل، وأمن التموين بالمحروقات. ولسنا بحاجة إلى تحاليل معمقة لنلاحظ أن أمن إسرائيل لا تضمنه الديمقراطية في البلدان العربية، إنما تضمنه الأنظمة العربية التي لا تحترم حرية شعوبها. فكلما تمكن الشارع العربي، كلما عبر عن تعاطفه مع فلسطين، كما يعرب عن رغبته في التحكم في موارده النفطية. عكس ذلك، فإن الأنظمة الضعيفة تتسارع في خدمة أمريكا حتى تحصل على رضا واشنطن للبقاء في السلطة.

أما العراق، فإنه كان البلد العربي الأكثر قدرة، مع الجزائر، للخروج من … التخلف والاستبداد، بفضل تاريخه وقوته الاقتصادية وثقافته السياسية وتقدمه التكنولوجي، ليصبح بلدا متقدما يحترم مواطنيه ويساند فعليا القضايا العادلة في العالم العربي. وقد اقترب كل من العراق والجزائر من التحكم في التكنولوجيا النووية، وهو الخط الأحمر الذي رسمته أمريكا للعرب، ومنعتهم أن يتجاوزوه.

وقد دخلت الجزائر في مرحلة تدمير داخلي منذ أكثر من عشر سنوات، ومازالت تعمل بجد لتدمير اقتصادها ومؤسساتها ومجتمعها وقيمها، ووضعت نفسها في التماس حيث لا وجود لها اليوم في العالم، رغم الفلكلور السائد في السياسة الخارجية للبلاد. وفشل العرب كلهم في نقطة واحدة جعلوا منها أولوية سياسيتهم هذا الشهر، حيث لم يستطيعوا أن يفكوا الحصار عن فلسطين. وإذا فشل كل العرب في تحقيق هذا الهدف، فكيف يحققه بلد لوحده؟

ودخل العراق بدوره في مرحلة تدمير داخلي وشامل. وقد زرع بلاد الرافدين ما يكفي من الأحقاد والجرائم ليضمن مواصلة الاقتتال لأشهر وسنوات طويلة. والمأساة اليوم تتمثل في هذا السؤال: ماذا سيحدث بين العراقيين غدا لو انسحب الجيش الأمريكي؟ هل تكفي دجلة والفرات لنقارنها مع حمام الدم المنتظر؟

لكن هذا السؤال يفرض علينا أن نقرأه من زاوية أخرى. إن تدمير العراق، ومنعه من النهوض ثانية، حتى ولو أدى ذلك إلى تقسيم البلاد، كان الهدف الحقيقي للسياسة الأمريكية. ولا يهم أمريكا أن تفقد ألفين أو ثلاثة آلاف جندي. ولا يهمها تمويل الحرب لأنها ستأخذ أموالنا لذلك. أما هدفها الحقيقي، فإنه يتمثل في القضاء على أية إرادة أو قوة عربية من الممكن أن تحقق التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، وهو التوازن الذي لن يتحقق إلا باكتساب التكنولوجيا النووية.

ومن هذه الزاوية، فإن أمريكا حققت أهدافها كاملة، حيث دمرت العراق، وزرعت فيه أسلحة الدمار الداخلية بكميات كافية لضمان انهياره. وضمنت أمريكا أمن إسرائيل، كما أعادت تركيب المنطقة لنصف قرن.

ومن يرى أن أمريكا فشلت في العراق حر في تحاليله، لكن لا يجب أن نظلم أمريكا. إنها جاءت بأهداف وحققتها. وسيرحل الجيش الأمريكي يوما وتدخل أمريكا مراحل سياسية جديدة بعد سنة مع الرئاسيات المقبلة، وتنسى العراق، وتنسى أبا مصعب الزرقاوي مثلما صنعته، لكن مآسينا ستبقى قائمة. وحتى لا نظلم أمريكا بصفة نهائية، يجب أن نتذكر أنها هددتنا يوما بالديمقراطية…

Poster un commentaire

Laisser un commentaire